قال الدكتور عمرو خالد، الداعية الإسلامي، إن الصدمات والابتلاءات التي يتعرّض لها الفرد هي جزء ضروري في الحياة، لاختبار مصداقيته وتحويل قيمه إلى اختيار شخصي وليس من خلال التلقين.
وأضاف، في الحلقة التاسعة من حلقات برنامجه الرمضاني “نبي الإحسان”، أن الابتلاء قد يطول أحيانًا؛ لأن القيمة تريد أن تترسخ في داخل الشخص المُبتلى باختياره الشخصي، ولا بد أن يضعه ربنا في مفارق الطرق حتى يختار قيمه بنفسه.
وأشار إلى أن الحساب يوم القيامة لن يكون على المعرفة؛ لكن على تثبيت القيم التي عرفتها، لافتًا إلى أنه لذلك كان لا بد أن تكون هناك ابتلاءات في الحياة، إذ إن الحساب يكون على التطبيق وليس المعرفة، وعندما يختار الإنسان القيمة بنفسها تصير يقينًا، ويخرج أحسن ما لديه (إحسان).
وأوضح أن الهدف هو تعامل بشكل إيجابي صبور (صبر جميل) مع ابتلاءات الحياة؛ لأنها مهمة لتثبيت قيمك، ولن تخرج أفضل وأحسن ما عندك إلا عندما تكون قيمك ثابتة.
ووصف خالد الابتلاءات بأنها عملية إعادة غربلة للقيم وتحويلها إلى اختيار وليس تقليدًا، فتثبت أكثر وأكثر، وتتحول القيم إلى يقين وليس إلى تلقين.
وأوضح أن كل اختيار تختار فيه قيمة صحيحة هذا إحسان منك “وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان”، ولا بد أن يعوضك الله، وهذا قانون في الحياة؟.
وأشار إلى أنه لا يوجد قرار يحدث لعقل الإنسان إلا ويمر على مصفاة القيم، لافتًا إلى أن الإحسان والمنازل السبع هي الجامعة لمنظومة القيم؛ لأن الإحسان هو مظلة القيم والأخلاق في الإسلام، فالعفة موجودة تحت التقوى، والشجاعة موجودة تحت اليقين، وحسن الخلق مع الناس وبر الوالدين وبالوالدين إحسانًا موجودة تحت الإحسان، ومنظومة والكفاح في الحياة وبذل الجهد والعرق ومجاهدة الدنيا موجودة تحت التوكل.
لكنه أكد أن هذه القيم محتاجة إعانة من الله حتى تثبت، مصداقًا لقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: “وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا”، وقال عن أم موسى بعد أن أمرها بإلقائه في النهر: “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ”، وقال عن يوسف: “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ”.
وقال خالد إنه لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك”؛ لأن الدين هو الجامع لكل القيم، مبينًا أن القيم هي أقوى رد على الفكر الغربي الذي يقول إن كل شيء في الحياة نسبي ولا توجد ثوابت.
النبي في شعب بني طالب
استعرض خالد قصة حصار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في شعب بني طالب من قبل قريش، وهو واد صغير بين جبلين، مناخه صحراوي شديد القسوة، ووضعت على مدخله دوريات مراقبة بقيادة أبي جهل، حتى لا يدخل أي طعام إليهم، وظلوا على هذا الوضع ثلاث سنوات.
وذكر أن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تحاول بمالها إدخال الطعام إلى المحاصرين في الشعب؛ لكن أبا جهل ضبط الأكل مرتين، ولم يسمح بدخوله، غير أنها كانت في بعض الأحيان تدخل الطعام، وقد عانت صحيًا خلال تلك السنوات وماتت بعد الخروج مباشرة، وكذلك أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال خالد إن السيدة خديجة نجحت في امتحان القيم؛ لكنها ماتت، ونزل جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد بَشِّرْ خديجةَ ببيتٍ في الجنةِ من قصبٍ لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَبَ.
وذكر أن قريشا وضعت خطة شيطانية تعد اختبارًا للقيم، تسمح لأي شخص من الموجودين في الشعب بأن يعلن تخليه عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرجع بيته فورًا معززًا مكرمًا؛ لكنهم لم يقبلوا لأنه كان عندهم يقين في الله.
علاوة على ذلك، أمرت قريش بعدم الزواج من ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم (رقية وأم كلثوم)، وكانتا قد عقد عقدهما على عتبة وعتيبة ابني أبي لهب، فأمر ولديه بطلاقهما في الحصار، فتطلقتا في يوم واحد، وقد تزوج سيدنا عثمان بن عفان الأولى بعد الحصار، فلما ماتت تزوج الثانية.
وأشار خالد إلى أنه في تلك الأثناء نزلت سورة يوسف، وهي أكثر سورة ذكر فيها الإحسان، وسورة هود “فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ”، “إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ”.
ولفت إلى أن المسلمين اضطروا نتيجة الجوع إلى أكل ورق الشجر. ويروي سعد ابن أبي وقاص، الذي فتح القادسية لاحقًا، أنه كان جالسًا يبول فسمع قعقعة تحت بوله، فاستخرجه فإذا هو جلد، فغسله وطبخه وأكله، وبقي عليها ثلاثة أيام بلا أكل.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فترة حصاره في الشعب مع الصحابة: “لقد أُخِفتُ في الله وما يُخافُ أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يُؤذَى أحد، ولقد أَتَتْ عليَّ ثلاثون مِن بيْن يوم وليلة وما لي ولِبِلال طعامٌ يَأْكُلُه ذُو كَبِد إلا شيءٌ يُوارِيه إبطُ بلال”.
مع ذلك، أكد خالد أنه ما من أحد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له إنه لا يقوى على تحمل ذلك، فقد نجحوا في اختبار القيم، وتغيرت المعادلة لصالح المسلمين.
وأشار إلى ثلاثة أشياء إيجابية التي نجمت عن الحصار لصالح المسلمين، وهي:
ـ جميع من حوصروا في الشعب أصبحوا أبطال الإسلام، وكان من بينهم العشرة المبشرون بالجنة، والخلفاء الراشدون الأربعة، أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وكل قادة الفتح الإسلامي، مثل سعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح؛ لأن الشعب كانت مدرسة تربوية نبوية لا يتخرج منها إلا بطل، لأنه قاوم الإحباط ويقينه مائة في المائة.
ـ جميع بني هاشم الكفار خرجوا من الشعب مسلمين، لأنهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فخرج 500 شخص منهم مسلم.
ـ تلاحم المسلمين مع بعضهم، لأنهم عاشوا مع بعض لمدة ثلاث سنين تحت ضغط شديد دون أن يستسلم واحد منهم أو يصيبه الإحباط.
في المقابل، رصد خالد ثلاثة أشياء حصلت في قريش، وهي:
ـ هزيمة قريش معنويًا، بعد أن فشلت خطتها في حصار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
ـ شرخ وانقسام في صفوف قريش، فقد رفض الشباب الصغير حصار المسلمين، وكانت الشعب هي السبب في إسلام خالد بن الوليد في المستقبل وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رموز الشباب الثلاثة الكبار في مكة، فلما دخلت غزوة بدر هزمت لأن قريشا لم تكن على قلب رجل واحد.
ـ تعاطفت كل قبائل العرب مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنها كانت تخشى قريشا. وبعد مضي 6 سنوات، أسلمت العرب كلها في أسبوع واحد، وكانت البداية هي الشعب.
وقال خالد إن ما تراه مأساة مع استمرارك في قيمك، والاستمرار في الإحسان يتحول إلى فتح، فقد كانت الشعب نقطة التحول في تاريخ الإسلام، وكان لا بد أن تطول مدة الحصار، لأن طول المدة هو الذي أدى إلى هذه النتائج.
انهاء الحصار
أوضح خالد أن الأيام والسنوات مرت عصيبة على المحاصرين، في تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.
" frameborder="0">